المهارة
المنسية في تدريس اللغة العربية كلغة أجنبية
ترددت في عنونة هذا الموضوع بين "
القراءة الجهرية في تدريس اللغة العربية كلغة أجنبية، لماذا وكيف؟
" و " القراءة الجهرية، المهارة المنسية في تدريس اللغة العربية كلغة
أجنبية "، وارتأيت بعد تفكير ملي أن أختار الثاني لإثارة موضوع طالما شغل
بالي ولبعث رسالة قد تحيي أملا يوقظ الشعور بهذا الجانب التكويني الهام الذي بدأ
يطاله النسيان.
من نوافل القول إن النظرة التواصلية في
التعليم والتعلم غلّبت مهارات على أخرى إن لم تكن قد غيّبت بعضها وعلى رأسها مهارة
القراءة الجهرية التي أمست إما مُقبرة أو مجرد نشاط عابر، شأنها شأن باقي الأنشطة
اللغوية الإضافية المعتمدة، إما بغرض إنهاء ما تبقى من وقت في الحصة، أو لكسر الملل
أو التنفيس أو الترفيه أو ما شابه ذلك. من هنا إنطلقت فكرة الكتابة في الموضوع قصد
إثارة وجوب تصحيح المسار أملا في رد الإعتبار لهذا الركن الأساسي من أركان تعليم وتعلم
اللغات عموما واللغة العربية خصوصا. و لِما يسهم به هذا الركن في خدمة باقي
الأركان من إستماع وفهم وكتابة وغيرها، من المستوى الإبتدائي مرورا بالمتوسط إلى
المتقدم.
القراءة الجهرية مهارة سال فيها مداد كثير في
ميدان تعليم وتعلم اللغة العربية كلغة أم، لكنه شح إن لم نبالغ بالقول إنه جف في
تعليمها و تعلمها كلغة أجنبية. كما أن الإعتقاد السائد لدى من لا يعيرها كبير
اهتمام - عن جهل أو تجاهل - ويكتفي بإضفاء صفة " تكميلية " عليها لسد
فراغ هنا أو هناك، أو صفة " تجميلية " لتزيين شكل هذه الوحدة أو تلك،
جعلها مهارة لا تثير فضول الطلاب كثيرا، لأن الفرصة لم تتح لهم ليُثار هذا الفضول،
وأمست بالتالي لا تستدعي رعاية جادة. لكن إذا قمنا بنقد ذاتي، ووقفنا وقفة تأملية وفّينا
فيها هذه المهارة حقها، وتناولناها بالجدية والإهتمام اللازمين، ستُفتح بالتأكيد شهياتنا
و شهيات طلابنا، وسيكون لذلك أثر بليغ في مختلف المهارات.
حقيقة أن التسرع في الوصول إلى أهدافنا
المنشودة أضحى سمة في كل مناحي الحياة، و طبيعي أن تصاب التربية في جوانبها
المختلفة من تكوين و تعليم و تعلم وغير ذلك بهذه العلة باعتبارها منحى من هذه
المناحي شأنُها شأنَها، لكن من غير المبرر في اعتقادي أن نضرب بعرض الحائط أمرا من
الأهمية بمكان، و في مختلف المجالات، لمجرد أن قطف ثماره يتطلب وقتا لا نقوى بطوله
على الإنتظار. سُقت هذه الملاحظة لأشير إلى أن هذا هو أيضا واقع الحال في تدريس
لغتنا كمثيلاتها من اللغات، باعتبار أن ما يسري على الكل يسري بالضرورة على البعض،
تسرّع في كل شيء من رسم للأهداف إلى التخطيط للوصول إليها إلى بلوغها، وإزاحة
بالتالي كل ما يقف حجر عثرة أمام فكرة التسرع. فإذا تأملنا مهارات التدريس، نجد أن
مهارة القراءة الجهرية على الخصوص لا تخضع لهذا المنطق المتداول حاليا منطق التسرع،
فهي المهارة الوحيدة التي لا تؤتي أكلها ولا يظهر تأثيرها جليا على باقي المهارات إلا
إذا تمت المداومة عليها وتم اعتمادها مهارة أساسية في مختلف المستويات، لا تكميلية
أو تجميلية يُلجأ إليها لملء فراغ هنا أو تزيين وحدة هناك. لذلك وجب التأني في
التعامل معها، و تخصيص جزء من كل حصة لها من بداية تقديم الحروف الأولية إلى آخر
حصة في مراحل الطالب المتقدمة، و تضمين الفروض و الإمتحانات و مختلف التقييمات
اللغوية حيزا لها.
ما جلبني وشدني إليها كثيرا تداخل أسسها
بأهدافها وصفاتها في شكل بديع عجيب، وأكثر من ذلك دورها في التأثير في شخصية
الطالب، هذا الدورالذي تنفرد به على أخواتها الأخرى من المهارات، ناهيك عما تسهم
به من الأدوار اللغوية المعتادة إن على المستوى الشفاهي أو السمعي أو الكتابي.
لنتأمل فيما يلي منطلقيها، و نستشف ما
ينطويان عليه من أهداف قبل الإنتقال إلى الحديث عن صفاتها :
المنطلق الأول إدراكي بصري يبدأ بمرحلة
القراءة الحرفية، تليها القراءة الصوتية ثم القراءة المقطعية فقراءة الكلمة، ويتم في
جميعها التعرف على الرموز و نطقها و التمرن على السلاسة و مخارج الحروف قبل
الإنتقال إلى المنطلق الثاني.
المنطلق الأول هذا مع الأسف ضعيف إن لم نبالغ
بالقول إن ما يستحقه من عناية مفتقَد في تعاملنا مع تدريس اللغة العربية كلغة
أجنبية، إذ بمجرد تقديم الرموز والأصوات والحركات و مقاطع وكلمات هنا وهناك والتدرب
عليها بشكل استعجالي بطي الصفحات، نغلق الملف و ننتقل مباشرة الى شحن الطالب بمفردات
وتراكيب وعبارات إما في صيغ تواصلية أو نحوية أو غيرها مستندين في الغالب على
القراءة الصامتة وجرد ما بالفقرات والحوارات والنصوص في مختلف المستويات من أفكار
و معان غير مبالين بنطق ما يقدم وقصره ومده وسلاسته وضبطه وطلاقته وقدرة ومدى
انفعال الطالب معه، في الوقت الذي ينبغي فيه موازاة القراءة الجهرية بغيرها من
المهارات والأنشطة واعتمادها ركنا أساسيا لا يتم التغاضي عنه أبدا أو إضفاء صبغة
"الإضافة" عليه، كما ينبغي الإجتهاد في تحسينه و تطويره واختيار ما
يلائم الطلاب كما و كيفا بخصوصه وعدم الإعتماد أو الإقتصار على ما تتضمنه الكتب
المقررة في هذا المستوى أو ذاك.
هذا
الحال بالضبط المتسم بغياب ما ينبغي أن يكون هو ما خلق ويخلق الثغرة بل الهوة التي
ما لبث الطالب يتخبط في قعرها في جميع مستوياته اللغوية، يصارع باستمرار وفي عناء نطق
الحروف والكلمات في الوقت الذي يجب فيه أن يكون قد تخطى ذلك في مراحل مبكرة و انكب
على حسن الإلقاء بإحساس وتفاعل. فبالإحساس و التفاعل نكون قد بلغنا درجة الصفاء و
النقاء و الإلتحام كما هو مصطلح عليه في لغة التصوف، وهما ركيزتا المنطلق الثاني كما
سيلي واللذان لا نجد لهما أثرا البتة لدى الطلاب في مختلف مراحلهم التعليمية إلا
ما نذر.
المنطلق الثاني فكري أكثر منه إدراكي يتمثل
في مرحلة قراءة الجملة ثم مرحلة القراءة الجمعية اللتين تمتزج فيهما العملية
الأولى الإدراكية البصرية للرمز أو الحرف بالعملية الفكرية الرامية إلى الفهم والتي
يتولد منها التفاعل. من هنا تبدأ أهمية هذه المهارة بالجلاء، فبالقراءة الجهرية نتفاعل
مع ما نقرأه وننقل الشكل والمعنى في آن واحد معا، نشد المستمع إلينا ونشركه
أحاسيسنا، نجعله يرسم الكلمات حرفا حرفا في ذهنه وننقل معاني ما نقرأه إليه، و
ننفخ فيه من روحنا فيتفاعل و ينفعل. فإذا قُرِئت لك مثلا جملة من قبيل " فلان
على فراش الموت " أو " إبتسمت فلانة و قالت هيت لك "، فستكتب بلا
شك حروف ما سمعت في ذهنك، وتنتقل هذه الحروف في انسياب عجيب في شريانك، فتدرك
المعنى مباشرة بعد ذلك راسما فعل الحسرة بسماعك الجملة الأولى و الإستغراب بسماعك
الثانية في مخيلتك، وقد تتألم في داخلك إذا انفعل قارئ الجملة الأولى مع ما يلفظ
به، وتشتاق لمعرفة ما سيحدث إذا تم الإلقاء في الثانية بالشكل المطلوب. لا أريد أن
أقتبس جملا من فقرات و نصوص من كتب ما ندرس لإظهار أهمية التفاعل إذ همي الموضوع
ذاته لا ما يحويه هذا الكتاب أو ذاك. أخلص إلى القول إن القراءة الجهرية تستفرد
بإشراك الغير فيما يتم إدراكه بصريا و فكريا، وهذا لا يحصل في القراءة الصامتة
التي تنطوي على نفسها بطبيعتها هادفة الفهم فقط وليس الإفهام والإنفراد بالإحساس
وليس إشراك الغير فيه. لهذا تأتي القراءة الجهرية في مرتبة أعلى من نظيرتها
الصامتة من حيث التعقيد مادام الغرض منها لا يقتصر على الإستيعاب والفهم الذاتي، بل
يتعداه إلى فن الإلقاء وكسر حاجز التردد والخجل وتنمية الثقة بالنفس وكسب المستمع
في مراحلها الأولية، ثم المواجهة والإقناع أثناء الحديث في مراحل لاحقة. هذا ما
قصدت في إشارتي سابقا إلى دور القراءة في التأثير في شخصية الطالب، و هو لا ولن
يتأتى إذا تم تجريد مهارة القراءة الجهرية من أهدافها السامية هذه، واعتُمِد إسمها
عاريا عنوانا لتمارين هنا وهناك في هذا الدرس أو ذاك، كما هو واقع الحال فيما يروج
من كتب في تدريس اللغة العربية كلغة أجنبية ولّـد حالات شاذة نلاحظها في قراءات
معظم طلاب اللغة العربية في العقدين الأخيرين خصوصا، إذ لا يمكن تصنيفها وللأسف حتى
في درجة القبول نظرا لما تتسم به من تكلف فضلا عن غياب سلامة النطق والضبط النحوي
والإسترسال والإتقان وصحة اللفظ والتفاعل مع المقروء. وكلها أعراض نتجت كما أسلفت إما
عن جهل أو تجاهل أهمية مهارة القراءة الجهرية وأهدافها وتقنياتها.
أما فيما يخص الصفات التي يلزم الحرص عليها
في القراءة الجهرية والتي بتحقيقها يتحقق المبتغى وبغياب أحدها ينتفي، فيمكن
إجمالها عموما فيما يلي :
١ـ فهم ما يُقرأ، فالقارئ الذي لا يفهم بعض
أو جل أو كل ما يقرأه لن يعطي اللفظ حقه، وحتى - إفتراضا - إن فعل و تمكن شكلا من
ذلك، فلن تكون في إلقائه روح تدل على حياة، و لن يغدو بالتالي أن يكون سوى مجرد آلة
قارئة شبيهة بما هو متداول إلكترونيا في قراءات ملفات و رسائل على الحواسيب و
الهواتف الذكية وغيرها.
٢ـ سلامة النطق، وتبدأ من مرحلتي القراءة
الحرفية والقراءة الصوتية بالتحقق من مخرج كل حرف على حدة والدقة في التداريب
واستمراريتها، وهي خطوة أساسية يلزم التركيز عليها قبل الإنتقال إلى مرحلتي
القراءة المقطعية وقراءة الكلمة، وبداية جني ثمار هذه المراحل مجتمعة تبدأ في
مرحلة قراءة الجملة وتسهل معها بالتالي مرحلة القراءة الجمعية فتظهر سليمة حرفا
وصوتا ومقطعا وكلمة، ويتم التفرغ بالتالي لباقي الصفات.
٣ـ الطلاقة، و تستند إلى الإسترسال والإنسياب أي
التسلسل الطبيعي و السرعة المتزنة و عدم التردد مع إيفاء كل حرف و مد ما يستحقه من
زمن، و التدرب على الوصل باكرا بما أسميه إن أمكن ذلك و تبعا لتجاربي المتواضعة "
القراءة بعيني سمكة " أي النظر يمين و شمال الكلمة المقصودة والتعامل مع مجموعة من الكلمات وبتدرج في
مراحل الطالب الدراسية كوحدة متماسكة بدل عزلها عن بعضها و قراءتها منفردة كلمة
كلمة.
٤ـ مراعاة
علامات الترقيم وإحسان الوقف عندما يكتمل المعنى، فبهما يُدرَك فهم القارىء و يُهيَّأ
المستمع للمعنى الذي يليه، و بهما تكتمل معنى الطلاقة و يدرَك معنى التفاعل.
٥ـ التفاعل، وهو كنه
القراءة الجهرية، ومفاده تعبير الإلقاء عن المعنى لنقله إلى المستمع بتنغيم الصوت
لتجسيم المعنى وتجسيد مختلف الحالات الإنفعالية من تعجب واستفهام و تأكيد و إنكار
و وصف وغيرها. بالتفاعل يتم جلب المستمع وشده وإشراكه فيما يحس به القارئ أثناء قراءة
النص أو الحوار بغض النظر عن نوعه ومحتواه، وبغيابه تبقى القراءة جسدا بلا روح،
تنفّر المستمع أو تجعله في سبات.
هذه الصفات مجتمعة
تضفي صفة القبول والإستحسان على القراءة الجهرية وتسهم بالتالي في تحسين مهارتي
التكلم والكتابة خصوصا وباقي المهارات عموما، فالتمكن من القراءة له أثر في التمكن
من التحدث والكتابة، والمتعلم الضعيف قراءة هو قطعا ضعيف كتابة، كما أنه بالقراءة
الجهرية يصل الدارس إلى المرحلة الأخيرة مرحلة المواجهة والإقناع التي ذكرتها
سابقا والتي تشكل الهدف الأسمى والمنشود.
واقتراحي ما دمنا
بصدد بحث سبل الإتقان والإجادة ألا يتم الإقتصار في مهارة القراءة الجهرية على
النصوص الواردة في الكتب المقررة لتدريس اللغة العربية كلغة أجنبية، بل يجب تزويد
الطلاب بنصوص إضافية قصيرة معبرة ومناسبة لمستوياتهم اللغوية مع ترك الخيار لهم في
اختيار ما يروق لهم منها، وتكليفهم بتحضير قراءاتهم بالبيت استعدادا لقراءة جهرية تتم
في الفصل في جو تنافسي مؤثر ممثل للمعنى يتم تسجيله صوتا أو صوتا و صورة معا والإستمتاع
بذلك لاحقا.
كما يلزم ضبط بعض
الكلمات في النص المقروء بشكل ما يلزم من حروف في المستوى الإبتدائي خصوصا والتدرج
في تقليص التشكيل حتى الإستغناء عنه في المستويات المتقدمة، إذ به يتم تخفيف العبء
على المتعلم في المراحل الأولى حتى ينصرف إلى القراءة و حتى لا تتم مقاطعته
باستمرار والخوض في جدل النحو و الصرف فيضيع الهدف.
وتشكل القراءة
النموذجية سواء من طرف المدرس خصوصا أو ما يتم اختياره من تسجيلات قدوة مثالية للطلبة
أنصح بالإلتزام بها لما تتركه من آثار وفعالية في نفوسهم إضافة إلى تقوية مهارة
الإستماع لديهم. كما أن الحرص على تصحيح الأخطاء من قبل المدرس نفسه وتقييم وتوجيه
الطالب بين الفينة والأخرى من شأنهما أن يحفزاه على تحسين قراءته وتقوية مواطن الضعف
لديه.
مهارة تستحق حقا
التأمل و رد الإعتبار. فعندما نقرأ جهرا، نوظف عددا أكبر من الملكات لا يتم
توظيفها مجتمعة في غيرها من الملكات، فيها يلتحم النظر والنطق والسماع والإدراك
والإحساس والإنفعال في لحظة واحدة بشكل بديع عجيب لا يمكن وصفه أو التعبير عنه إلا
بقول " سبحان الله ".
أختم موضوعي هذا
بالقول إننا عندما ندرب الطالب على هذه المهارة نكون قد ألممنا من جانبنا كمدرسين
و مدرسات بالسؤال الأساس: " كيف نقرأ جهرا "، لكن السؤال: " لماذا
نقرأ جهرا " فيُترك للطالب عينه يستكشف مع الزمن خباياه.
تم بعون الله وحمده
ذ. محمد الزعيم
No comments:
Post a Comment